حول رواية شيفرة دافنشي
"كل نقد يبدأ بنقد الدين..."
كارل ماركس
1
هي رواية جميلة وممتعة. كتاب حطَّم، حتى تاريخ اليوم، جميع أرقام المبيعات القياسية في العالم. فقد تجاوز تعدادُ قرائه الثمانية ملايين قارئ! كتاب مثير استنكرتْه بعضُ الأوساط المسيحية الكاثوليكية المتعصِّبة، وقبلتْ به بطرافة بعض الأوساط الليبرالية المسيحية وغير المسيحية الأخرى. ففي منطقتنا، شجب هذا الكتاب في لبنان (المتحرِّر)، مثلاً، لصالح مكتبات دمشق (الأقل تحررًا)، حيث هو متوفر ويحقق مبيعات جيدة (ليس حصرًا). كتاب لن يدخل التاريخ حتمًا كأحد روائع الأدب العالمي، لكنك، إن أمسكت به، أخي القارئ، فإنه لن يكون في وسعك فعلاً تركُه قبل الانتهاء من صفحته الأخيرة!
فعمَّ يتحدث هذا الكتاب يا ترى؟ ولِمَ كل هذا الضجيج المثار حوله؟
2
على خلفية صراع "مخابراتي" عنيف بين إحدى أكثر المجموعات الكاثوليكية تعصبًا، المعروفة بالـOpus Dei، وبين أتباع مجموعة سرَّانية (مجهولة، وإن أضحت شهيرة في السنوات الأخيرة) تدعى بـ"مصلَّى صهيون" Prieuré de Sion (وليس "جمعية زيون"، كما جاء في الترجمة "المعرَّبة" للكتاب!)...
مقر جمعية Opus Deiفي نيويورك
... يقال إن الـOpus Dei اغتالت، على يد قاتل (منوَّم) من أتباعها، قادة ذاك التنظيم الآخر بهدف الحصول على مفتاح يقود إلى سرٍّ عظيم من شأنه أن يهزَّ أركان الكنيسة، ويبدو من حيث الشكل وكأنه بحث عن الكأس المقدسة (أو الـHoly Grail). ووسط ديكور سياحي ساحر، حيث تتسارع أحداثُ القصة (كما في الأفلام) بين متحف اللوفر وكنيسة سان سولبيس (في باريس) ودير ويستمنستر (في لندن)...
... يقدم الكاتب دان براون – وهو أستاذ جامعي أمريكي شاب وكاتب مرموق – منظورًا آخر للأسطورة المسيحية، فيفترض أنه كان ليسوع خلال حياته علاقة خاصة بمريم المجدلية التي كانت، كما يقال، زوجته، والتي هاجرت، بعيد مغادرته هذا العالم إلى فرنسا، لتصبح أمًّا لسلالة ملكية كانت متمثلة بالميروفنجيين، الذين كان منهم كلوفيس، أول ملك مسيحي لفرنسا. وهو "سر خطير" عتَّمتْ عليه الكنيسة، وفق ما يدِّعيه الكتاب، طوال تاريخها؛ لكنه أيضًا، سر كانت تعلمه وتحميه جيدًا، على ما يبدو، جمعية "مصلَّى صهيون"، التي يقال إن مؤسِّسها (في العام 1099 م) كان أول ملك للقدس اللاتينية (إبان الحروب الصليبية)، غودفروا دُهْ بويون. وهي جمعية مستمرة إلى الآن (على ما يقال)، وكانت تضم من بين عمدائها البارزين على مرِّ تاريخها العديد من الشخصيات الإنسانية الطليعية التي عُرِفَتْ بتوجهاتها وميولها الباطنية: ليوناردو دافنشي، بوتيتشيلي، روبرت فلود، إسحق نيوتن، فكتور هوغو، كلود دوبوسي، جان كوكتو، و... من أواخرهم (وهذا لم يذكره الكتاب) شخص إشكالي جدًّا، توفي في العام 2002، يدعى بيير بلانتار دُهْ سان كلير [الذي يبدو الشق الأول من اسم عائلته (بلانتار) فرنسيًّا عاديًّا جدًّا، بينما الشق الثاني (دُهْ سان كلير) يبدو أنه نسب نبيل).
ويستعرض الكتاب، عن طريق بطله روبرت لانغدون، الذي يفترضه أستاذًا في جامعة هارفارد، ذلك البحث عن "الكأس المقدسة" من خلال فكِّ شفرات تضمَّنتْها في صورة رئيسية الأعمالُ الأشهر لليوناردو دافنشي – ومن هنا جاء عنوان الكتاب...
ليوناردو دافينشي
3
ونتوسع قليلاً من خلال المرور السريع على تلك الأعمال الأهم لدافنشي التي يستعرضها الكتاب، مبتدئين أولاً بإنسان فانتوري الذي يفتتح به كاتبُنا مسرح جريمة قتل مَن يفترضه رئيسًا لجمعية مصلَّى صهيون وحافظًا لمتحف اللوفر في باريس؛ وقد أسماه سونيير (ولنا عودة إلى هذا الاسم ضمن سياق مقالتنا).
إنسان فانتوري
ثم ينقلنا إلى الموناليزا (الجوكوندة)، أشهر لوحات دافنشي، وأشهر لوحة في العالم على الإطلاق... فسيدة الصخرة...
"الموناليزا" و"سيدة الصخرة"
فالعشاء السرِّي...
حيث نلاحظ، ضمن هذا السياق، أن وراء كلَّ لوحة رمزًا و/أو فكرةً إشكاليةً يمرِّرها الكاتب من خلال تلك الأعمال: كتلك التي في لوحة العشاء السرِّي، مثلاً، حيث يظهر وكأن الشخص الذي على يسار يسوع ليس رجلاً، بل هو في الحقيقة امرأة تلبس ثيابًا مشابهة، وإنْ معاكسة في اللون لثياب يسوع؛ امرأة تبدو في هذا العشاء وكأنها الشخصية الأهم بين التلاميذ الذين كان تعدادهم (معها حسب اللوحة) اثني عشر؛ امرأة يفترض أنها تلك المجدلية التي رافقتْه إبان حياته العلنية وحتى النهاية، والتي كان أول مَن ظهر لها بعيد قيامته. ونتساءل حول...
4
... الجديد في الأمر، خاصةً وأن هذا الكتاب ما هو إلا تذكير – أضعف بكثير من حيث التوثيق – بكتاب آخر سَبَقَه في أوائل الثمانينات (في العام 1982 تحديدًا) وضَرَبَ، مثله أيضًا حينذاك، الأرقام القياسية في المبيعات؛ كتاب كان عنوانه، وفق نسخته الإنكليزية، الدم المقدس والكأس المقدسة The Holy Blood and the Holy Grail واللغز المقدَّس أو L’énigme sacrée، وفق نسخته الفرنسية.
ونستعيد ذلك الكتاب الإشكالي الآخر، والواسع الانتشار أيضًا، حيث حاول مؤلِّفوه الثلاثة، السادة مايكل بيجنت وريتشارد ليي وهنري لنكولن، من خلال تحقيق موثَّق توثيقًا لا بأس به، وابتداءً بالبحث عن سرِّ الاغتناء المفاجئ، في أواخر القرن الماضي، لكاهن صادف أن وُجِدَ في منطقة نائية من جنوب فرنسا، في قرية تدعى رين لوشاتو Rennes le Château، كانت فيما مضى إحدى معاقل الكاثاريين. فيقودنا السياق الذي بدأ مفترضًا ما يمكن أن يكون قد اكتشفه آنذاك ذلك الكاهن الذي كان يدعى بيرانجيه سونيير من وثائق هامة جدًّا (كان يمتلكها الكاثاريون)، ليستعرض تاريخًا طويلاً يصل بنا – ككتاب دان براون – إلى الكاثاريين، ففرسان الهيكل، فجمعية مصلَّى صهيون، فعلاقة المسيح بالمجدلية وسلالتهما الميروفنجية المفترَضة، إلخ. ونستنتج طبعًا أن هذا الكتاب السابق إنما يشكل الخلفية الوثائقية التي استند إليها بعدئذٍ كتاب شيفرة دافنشي اللاحق، الذي لا ينفي "أصوله" تلك، بل ينوِّه بها صراحة ضمن حواراته. ونتساءل:
ما الجديد فعلاً؟ – خاصةً وأن السرَّ الذي يفترض أن يكشفه كتاب شيفرة دافنشي لم يكن سرًّا، فقد كان يعلمه، على الأقل منذ صدور الكتاب الأسبق (أي الدم المقدس والكأس المقدسة) منذ الثمانينات، ملايين القراء. ونتساءل حول الجديد والسر في انتشار هذا الكتاب حقيقةً، خاصةً وأن هذا "السر"، الذي لم يكن سرًّا أصلاً، إنما كان متداوَلاً فعلاً على مرِّ العصور، مرورًا بدافنشي الذي لم يفعل الكاتب سوى التذكير بالرموز (المعروفة) والمتضمَّنة في لوحاته وأعماله، وصولاً إلى القرن الماضي ونيكوس كازانتزاكيس، الذي قدَّم في كتابه الشهير الإغواء الأخير للمسيح رؤاه الخاصة لتلك الفرضية نفسها المتعلقة بالعلاقة المفترَضة بين يسوع والمجدلية. ونتفكر في الموضوع قليلاً، وبمزيد من العمق...
5
فنلاحظ أن دان براون، الذي وعى هذه النقطة (التي قد يجادله فيها بعضهم) حول "سرِّه" المفترَض، اختتم قصته بتلك النهاية الذكية التي تتخيل "الكنز" وكأنه مدفون في أسفل هرم اللوفر، تمامًا تحت ذلك الهرم المقلوب الذي يتوقف عنده جميع زوار المتحف، والذي ليس في وسع أحد الوصول إليه لأنه، كالبحث عن الكأس المقدسة، مجرد خيال...
متحف اللوفر، الهرم المقلوب
أو لنقل مجرد حلم جميل، كذلك الذي كانت – وستبقى – تبحث عنه الإنسانية إبان مسيرتها...
حلم بدين إنساني يتجاوز ذكورة أدياننا الحالية ويستعيد أنوثته من خلال بشر أرقى وأكثر تقدمًا.
ونسجِّل هنا، لتأكيد هذه الفكرة، أن هذه هي المعلومة الإضافية الرئيسية التي أضافها دان براون إلى الكتاب السابق، المتعلِّقة بمصلَّى صهيون؛ هذه هي تحديدًا الفكرة، حيث يبدو وكأن جمعيته التي يتعاطف معها إنما تمارس طقوسًا ذات علاقة بأنوثة الألوهة، وتؤمن بهذه الأنوثة، التي يقول الكتاب إن يسوع حاول فَرْضَها على تلاميذه من خلال المجدلية...
6
وأتفكر أنه حتى هذه الفكرة لم تأتِ من فراغ، لأننا، إن توقفنا قليلاً عند إنجيل توما (المنحول)، سنجد، في "سورته" الختامية تحديدًا، ذلك القول الذي قد يستحق بعض التأمل، حيث جاء:
114. قال لهم سمعان بطرس: "على مريم أن تغادرنا، فإن الإناث لسن أهلاً للحياة."
فقال يسوع: "أنظر، فإني سوف أُرشِدها لأجعلها ذكرًا، حتى تصير هي الأخرى روحًا حيَّة تشبهكم أنتم الذكور. فإن كلَّ أنثى تجعل نفسها ذكرًا تدخل ملكوت السماوات. "
نعم، لم يكن هناك سر.
وبالتالي، فإن ما كشفه، أو لنقل ما تحدث عنه دان براون في الحقيقة، بأسلوبه الروائي الشيق، لا ولن يدمِّر الكنيسة التي يفترض أنها تطورت كثيرًا اليوم، بحيث صار في وسعها استيعاب طروحات كهذه قد لا تتوافق، ربما، مع الفهم التقليدي و/أو العامي لمقدَّساتها. وهو واقع إن دلَّ على شيء فإنما يدل، ربما أيضًا، على أن عامة الناس (في المسيحية واليهودية وسواهما) قد بدأت تنظر وتتفهَّم دينها بشكل أعمق وأكثر إنسانية. من هنا، يمكن ربما تفسير ذلك التلهف لقراءة كتب كهذه تتعرض للمقدسات وتتجاوز المألوف في طرحها، وخاصة حين تتعلق كتب كهذه بأمور الدين – لأن...
7
المشكلة الأساسية بالنسبة لأيِّ دين و/أو فكرة إنسانية جامعة إنما تكمن في علاقتها بأصولها. فمشكلة المسيحية الأولى كانت قطعًا – ولم تزل – أصولها اليهودية والرواقية والغنوصية؛ كما كانت مشكلة الإسلام الرئيسية في أصوله النصرانية واليهودية؛ ومشكلة اليهودية في أصولها المصرية والبابلية والعربية. أما المشكلة الثانية، التي لا تقل عن الأولى أهمية (وأنا أعني هنا جميع الأديان والأفكار الجامعة، لا أستثني منها دينًا أو فكرة)، فهي تكمن في علاقتها بعوامها.
وأتفكر أن لتلك المشاكل أوجُهًا متعددة ومتشابكة. فكل فكرة تنبع من أخرى أقدم منها، ومن تفاعلات وظروف محيطة، تجعل ظهورها من بعدُ محتمًا، إن لم نقل ضرورة. ووعاؤها هو الإنسان، وجدليَّتها هي جدلية الحياة النابعة من احتكاكات البشر وصراعاتهم وتفاعلاتهم... تراكمات كمِّية تتفاعل في الأعماق الإنسانية لتولِّد تحولات نوعية تبدو لنا، فيما بعد، وكأنها "جديد" يختلف نوعيًّا عمَّا سَبَقَه.
فالقديم قد يموت أحيانًا حين يظهر ذلك الجديد. لكنه غالبًا لا يموت، وإنما ينحسر فقط؛ ويبقى في الأعماق متفاعلاً، ليشكل تراكمات أخرى، تتحول، بدورها، إلى تحولات نوعية من نوع آخر. هكذا كانت الحال بالنسبة لجميع الأديان والأفكار الجامعة، الأمر الذي يشرح عمومًا تحولاتها وتفاعلاتها اللاحقة.
وأتفكر أن هذا بالضبط بعض ما نشهده اليوم، ويتعلق بـ"شيفرة دافنشي" وبأصول المسيحية، مثلاً وليس حصرًا. إنها تراكمات – مجرد تراكمات – تعود بين الحين والحين، بهذا الشكل أو ذاك، لتطفو على السطح، مذكِّرة بتلك الأصول...
انشالله نكون عطينا شوية فكرة عن موضوع اثار كتير جدل بأغلب المجتمعات